فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)} إلى قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)}.
في ثنايا التوجيهات والتشريعات القرآنية- التي يتألف من مجموعها ذلك المنهج الرباني الكامل للحياة البشرية- يجد الناظر في هذه التوجيهات كذلك منهجًا للتربية، قائمًا على الخبرة المطلقة بالنفس الإنسانية، ومساربها الظاهرة والخفية؛ يأخذ هذه النفس من جميع أقطارها، كما يتضمن رسم نماذج من نفوس البشر، واضحة الخصائص جاهرة السمات، حتى ليخيل للإنسان وهو يتصفح هذه الخصائص والسمات، أنه يرى ذوات بعينها، تدب في الأرض، وتتحرك بين الناس، ويكاد يضع يده عليها، وهو يصيح: هذه هي بعينها التي عناها القرآن!
وفي هذا الدرس نجد الملامح الواضحة لنموذجين من نماذج البشر: الأول نموذج المرائي الشرير، الذلق اللسان. الذي يجعل شخصه محور الحياة كلها. والذي يعجبك مظهره ويسوؤك مخبره. فإذا دعي إلى الصلاح وتقوى الله لم يرجع إلى الحق؛ ولم يحاول إصلاح نفسه؛ بل أخذته العزة بالإثم، واستنكف أن يوجه إلى الحق والخير.. ومضى في طريقه يهلك الحرث والنسل! والثاني نموذج المؤمن الصادق الذي يبذل نفسه كلها لمرضاة الله! لا يستبقي منها بقية، ولا يحسب لذاته حسابًا في سعيه وعمله، لأنه يفنى في الله، ويتوجه بكليته إليه.
وعقب عرض هذين النموذجين نسمع هتافًا بالذين آمنوا ليستسلموا بكليتهم لله، دون ما تردد، ودون ما تلفت، ودون ما تجربة لله بطلب الخوارق والمعجزات، كالذي فعلته بنو إسرائيل حين بدلت نعمة الله عليها وكفرتها.. ويسمى هذا الاستسلام دخولًا في السلم. فيفتح بهذه الكلمة بابًا واسعًا للتصور الحقيقي الكامل لحقيقة الإيمان بدين الله، والسير على منهجه في الحياة كما سنفصل هذا عند مواجهة النص القرآني بإذن الله.
وفي مواجهة نعمة الإيمان الكبرى، وحقيقة السلام التي تنشر ظلالها على الذين آمنوا.. يعرض سوء تصور الكفار لحقيقة الأمر، وسخريتهم من الذين آمنوا بسبب ذلك التصور الضال. ويقرر إلى جانب ذلك حقيقة القيم في ميزان الله: {والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة}.
يلي هذا تلخيص لقصة اختلاف الناس. وبيان للميزان الذي يجب أن يفيئوا إليه ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه. وتقرير لوظيفة الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين {الناس فيما اختلفوا فيه}.
ويتطرق من هذا إلى ما ينتظر القائمين على هذا الميزان من مشاق الطريق؛ ويخاطب الجماعة المسلمة فيكشف لها عما ينتظرها في طريقها الشائك من البأساء والضراء والجهد الذي لقيته كل جماعة نيطت بها هذه الأمانة من قبل. كي تعد نفسها لتكاليف الأمانة التي لا مفر منها ولا محيص عنها. وكي تقبل عليها راضية النفس، مستقرة الضمير؛ تتوقع نصر الله كلما غام الأفق، وبدا أن الفجر بعيد!
وهكذا نرى أطرافًا من المنهج الرباني في تربية الجماعة المسلمة وإعدادها، تنحو أنحاء منوعة من الإيقاعات المؤثرة، تتخلل التوجيهات والتشريعات التي يتألف من مجموعها ذلك المنهج الرباني الكامل للحياة البشرية.
{ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد}.
هذه اللمسات العجيبة من الريشة المبدعة في رسم ملامح النفوس، تشي بذاتها بأن مصدر هذا القول المعجز ليس مصدرًا بشريًا على الإطلاق. فاللمسات البشرية لا تستوعب- في لمسات سريعة كهذه- أعمق خصائص النماذج الإنسانية، بهذا الوضوح، وبهذا الشمول.
إن كل كلمة أشبه بخط من خطوط الريشة في رسم الملامح وتحديد السمات.. وسرعان ما ينتفض النموذج المرسوم كائنًا حيًا، مميز الشخصية. حتى لتكاد تشير بأصبعك إليه، وتفرزه من ملايين الأشخاص، وتقول: هذا هو الذي أراد إليه القرآن!.. إنها عملية خلق أشبه بعملية الخلق التي تخرج كل لحظة من يد الباريء في عالم الأحياء!
هذا المخلوق الذي يتحدث، فيصور لك نفسه خلاصة من الخير، ومن الإخلاص، ومن التجرد، ومن الحب، ومن الترفع، ومن الرغبة في إفاضة الخير والبر والسعادة والطهارة على الناس.. هذا الذي يعجبك حديثه. تعجبك ذلاقة لسانه، وتعجبك نبرة صوته، ويعجبك حديثه عن الخير والبر والصلاح.. {ويشهد الله على ما في قلبه}.. زيادة في التأثير والإيحاء، وتوكيدًا للتجرد والإخلاص، وإظهارًا للتقوى وخشية الله.. {وهو ألد الخصام}! تزدحم نفسه باللدد والخصومة، فلا ظل فيها للود والسماحة، ولا موضع فيها للحب والخير، ولا مكان فيها للتجمل والإيثار.
هذا الذي يتناقض ظاهره وباطنه، ويتنافر مظهره ومخبره... هذا الذي يتقن الكذب والتمويه والدهان.. حتى إذا جاء دور العمل ظهر المخبوء، وانكشف المستور، وفضح بما فيه من حقيقة الشر والبغي والحقد والفساد: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد}.
وإذا انصرف إلى العمل، كانت وجهته الشر والفساد، في قسوة وجفوة ولدد، تتمثل في إهلاك كل حي من الحرث الذي هو موضع الزرع والإنبات والإثمار، ومن النسل الذي هو امتداد الحياة بالإنسال.. وإهلاك الحياة على هذا النحو كناية عما يعتمل في كيان هذا المخلوق النكد من الحقد والشر والغدر والفساد.. مما كان يستره بذلاقة اللسان، ونعومة الدهان، والتظاهر بالخير والبر والسماحة والصلاح.. {والله لا يحب الفساد}.. ولا يحب المفسدين الذين ينشئون في الأرض الفساد.. والله لا تخفى عليه حقيقة هذا الصنف من الناس؛ ولا يجوز عليه الدهان والطلاء الذي قد يجوز على الناس في الحياة الدنيا، فلا يعجبه من هذا الصنف النكد ما يعجب الناس الذين تخدعهم الظواهر وتخفى عليهم السرائر.
ويمضي السياق يوضح معالم الصورة ببعض اللمسات:
{وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد}.
إذا تولى فقصد إلى الإفساد في الأرض؛ وأهلك الحرث والنسل؛ ونشر الخراب والدمار؛ وأخرج ما يعتمل في صدره من الحقد والضغن والشر والفساد. إذا فعل هذا كله ثم قيل له: {اتق الله}.. تذكيرًا له بخشية الله والحياء منه والتحرج من غضبه.. أنكر أن يقال له هذا القول؛ واستكبر أن يوجه إلى التقوى؛ وتعاظم أن يؤخذ عليه خطأ وأن يوجه إلى صواب. وأخذته العزة لا بالحق ولا بالعدل ولا بالخير ولكن {بالإثم}.. فاستعز بالإجرام والذنب والخطيئة، ورفع رأسه في وجه الحق الذي يذكر به، وأمام الله بلا حياء منه؛ وهو الذي كان يشهد الله على ما في قلبه؛ ويتظاهر بالخير والبر والإخلاص والتجرد والاستحياء!
إنها لمسة تكمل ملامح الصورة، وتزيد في قسماتها وتمييزها بذاتها.. وتدع هذا النموذج حيًا يتحرك. تقول في غير تردد: هذا هو. هذا هو الذي عناه القرآن! وأنت تراه أمامك ماثلا في الأرض الآن وفي كل آن!
وفي مواجهة هذا الاعتزاز بالإثم؛ واللدد في الخصومة؛ والقسوة في الفساد؛ والفجور في الإفساد.. في مواجهة هذا كله يجبهه السياق باللطمة اللائقة بهذه الجبلة النكدة:
{فحسبه جهنم ولبئس المهاد}.
حسبه! ففيها الكفاية! جهنم التي وقودها الناس والحجارة. جهنم التي يكبكب فيها الغاوون وجنود إبليس أجمعون. جهنم الحطمة التي تطلع على الأفئدة. جهنم التي لا تبقي ولا تذر. جهنم التي تكاد تميز من الغيظ! حسبه جهنم {ولبئس المهاد} ويا للسخرية القاصمة في ذكر {المهاد} هنا.. ويا لبؤس من كان مهاده جهنم بعد الاعتزاز والنفخة والكبرياء!
ذلك نموذج من الناس. يقابله نموذج آخر على الطرف الآخر من القياس:
{ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد}.
ويشري هنا معناها يبيع. فهو يبيع نفسه كلها لله؛ ويسلمها كلها لا يستبقي منها بقية، ولا يرجو من وراء أدائها وبيعها غاية إلا مرضاة الله. ليس له فيها شيء، وليس له من ورائها شيء. بيعة كاملة لا تردد فها ولا تلفت ولا تحصيل ثمن، ولا استبقاء بقية لغير الله.. والتعبير يحتمل معنى آخر يؤدي إلى نفس الغاية.. يحتمل أن يشتري نفسه بكل أعراض الحياة الدنيا، ليعتقها ويقدمها خالصة لله، لا يتعلق بها حق آخر إلا حق مولاه. فهو يضحي كل أعراض الحياة الدنيا ويخلص بنفسه مجردة لله. وقد ذكرت الروايات سببًا لنزول هذه الآية يتفق مع هذا التأويل الأخير:
قال ابن كثير في التفسير: قال ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة وجماعة: نزلت في صهيب بن سنان الرومي. وذلك أنه لما أسلم بمكة، وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل؛ فتخلص منهم، وأعطاهم ماله؛ فأنزل الله فيه هذه الآية؛ فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة، فقالوا له: ربح البيع.
فقال: وأنتم. فلا أخسر الله تجارتكم. وما ذاك؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية.. «ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ربح البيع صهيب». قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن عبد الله بن مردويه، حدثنا سليمان بن داود، حدثنا جعفر بن سليمان الضبي، حدثنا عوف، عن أبي عثمان النهدي، عن صهيب، قال: لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش: يا صهيب. قدمت إلينا ولا مال لك؛ وتخرج أنت ومالك؟ والله لا يكون ذلك أبدًا. فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني؟ قالوا: نعم! فدفعت إليهم مالي، فخلوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ربح صهيب ربح صهيب».. مرتين.
وسواء كانت الآية نزلت في هذا الحادث، أو أنها كانت تنطبق عليه، فهي أبعد مدى من مجرد حادث ومن مجرد فرد. وهي ترسم صورة نفس، وتحدد ملامح نموذج من الناس؛ ترى نظائره في البشرية هنا وهناك.
والصورة الأولى تنطبق على كل منافق مراء ذلق اللسان؛ فظ القلب، شرير الطبع، شديد الخصومة، مفسود الفطرة.. والصورة الثانية تنطبق على كل مؤمن خالص الإيمان، متجرد لله، مرخص لأعراض الحياة.. وهذا وذلك نموذجان معهودان في الناس؛ ترسمهما الريشة المبدعة بهذا الإعجاز؛ وتقيمهما أمام الأنظار يتأمل الناس فيهما معجزة القرآن، ومعجزة خلق الإنسان بهذا التفاوت بين النفاق والإيمان. ويتعلم منهما الناس ألا ينخدعوا بمعسول القول، وطلاوة الدهان؛ وأن يبحثوا عن الحقيقة وراء الكلمة المزوقة، والنبرة المتصنعة، والنفاق والرياء والزواق! كما يتعلمون منهما كيف تكون القيم في ميزان الإيمان.
وفي ظلال هاتين اللوحتين المشخصتين لنموذج النفاق الفاجر، ونموذج الإيمان الخالص. يهتف بالجماعة المسلمة، باسم الإيمان الذي تعرف به، للدخول في السلم كافة، والحذر من اتباع خطوات الشيطان، مع التحذير من الزلل بعد البيان.
{يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم}.
إنها دعوة للمؤمنين باسم الإيمان. بهذا الوصف المحبب إليهم، والذي يميزهم ويفردهم، ويصلهم بالله الذي يدعوهم.. دعوة للذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة..
وأول مفاهيم هذه الدعوة أن يستسلم المؤمنون بكلياتهم لله، في ذوات أنفسهم، وفي الصغير والكبير من أمرهم. أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى بعده بقية ناشزة من تصور أو شعور، ومن نية أو عمل، ومن رغبة أو رهبة، لا تخضع لله ولا ترضى بحكمه وقضاه.
استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة الراضية. الاستسلام لليد التي تقود خطاهم وهم واثقون أنها تريد بهم الخير والنصح والرشاد؛ وهم مطمئنون إلى الطريق والمصير، في الدنيا والآخرة سواء.
وتوجيه هذه الدعوة إلى الذين آمنوا إذ ذاك تشي بأنه كانت هنالك نفوس ما تزال يثور فيها بعض التردد في الطاعة المطلقة في السر والعلن. وهو أمر طبيعي أن يوجد في الجماعة إلى جانب النفوس المطمئنة الواثقة الراضية.. وهي دعوة توجه في كل حين للذين آمنوا؛ ليخلصوا ويتجردوا؛ وتتوافق خطرات نفوسهم واتجاهات مشاعرهم مع ما يريد الله بهم، وما يقودهم إليه نبيهم ودينهم، في غير ما تلجلج ولا تردد ولا تلفت.
والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلم وكله سلام. عالم كله ثقة واطمئنان، وكله رضى واستقرار. لا حيرة ولا قلق، ولا شرود ولا ضلال. سلام مع النفس والضمير. سلام مع العقل والمنطق. سلام مع الناس والأحياء. سلام مع الوجود كله ومع كل موجود. سلام يرف في حنايا السريرة. وسلام يظلل الحياة والمجتمع. سلام في الأرض وسلام في السماء.
وأول ما يفيض هذا السلام على القلب يفيض من صحة تصوره لله ربه، ونصاعة هذا التصور وبساطته..
إنه إله واحد. يتجه إليه المسلم وجهة واحدة يستقر عليها قلبه؛ فلا تتفرق به السبل، ولا تتعدد به القبل؛ ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك- كما كان في الوثنية والجاهلية- إنما هو إله واحد يتجه إليه في ثقة وفي طمأنينة وفي نصاعة وفي وضوح.
وهو إله قوي قادر عزيز قاهر.. فإذا اتجه إليه المسلم فقد اتجه إلى القوة الحقة الوحيدة في هذا الوجود. وقد أمن كل قوة زائفة واطمأن واستراح. ولم يعد يخاف أحدا أو يخاف شيئًا، وهو يعبد الله القوي القادر العزيز القاهر. ولم يعد يخشى فوت شيء. ولا يطمع في غير من يقدر على الحرمان والعطاء.
وهو إله عادل حكيم، فقوته وقدرته ضمان من الظلم، وضمان من الهوى، وضمان من البخس. وليس كآلهة الوثنية والجاهلية ذوات النزوات والشهوات. ومن ثم يأوي المسلم من إلهه إلى ركن شديد، ينال فيه العدل والرعاية والأمان.
وهو رب رحيم ودود. منعم وهاب. غافر الذنب وقابل التوب. يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء. فالمسلم في كنفه آمن آنس، سالم غانم، مرحوم إذا ضعف، مغفور له متى تاب..
وهكذا يمضي المسلم مع صفات ربه التي يعرفه بها الإسلام؛ فيجد في كل صفة ما يؤنس قلبه، وما يطمئن روحه، وما يضمن معه الحماية والوقاية والعطف والرحمة والعزة والمنعة والاستقرار والسلام..
كذلك يفيض السلام على قلب المسلم من صحة تصور العلاقة بين العبد والرب.
وبين الخالق والكون. وبين الكون والإنسان.. فالله خلق هذا الكون بالحق؛ وخلق كل شيء فيه بقدر وحكمة. وهذا الإنسان مخلوق قصدًا، وغير متروك سدى، ومهيأ له كل الظروف الكونية المناسبة لوجوده، ومسخر له ما في الأرض جميعًا. وهو كريم على الله، وهو خليفته في أرضه. والله معينه على هذه الخلافة. والكون من حوله صديق مأنوس، تتجاوب روحه مع روحه، حين يتجه كلاهما إلى الله ربه. وهو مدعو إلى هذا المهرجان الإلهي المقام في السماوات والأرض ليتملاه ويأنس به. وهو مدعو للتعاطف مع كل شيء ومع كل حي في هذا الوجود الكبير، الذي يعج بالأصدقاء المدعوين مثله إلى ذلك المهرجان! والذي يؤلفون كلهم هذا المهرجان!
والعقيدة التي تقف صاحبها أمام النبتة الصغيرة، وهي توحي إليه أن له أجرًا حين يرويها من عطش، وحين يعينها على النماء، وحين يزيل من طريقها العقبات.. هي عقيدة جميلة فوق أنها عقيدة كريمة. عقيدة تسكب في روحه السلام؛ وتطلقه يعانق الوجود كله ويعانق كل موجود؛ ويشيع من حوله الأمن والرفق، والحب والسلام.
والاعتقاد بالآخرة يؤدي دوره الأساسي في إفاضة السلام على روح المؤمن وعالمه؛ ونفي القلق والسخط والقنوط.. إن الحساب الختامي ليس في هذه الأرض؛ والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة.. إن الحساب الختامي هناك؛ والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب. فلا ندم على الخير والجهاد في سبيله إذا لم يتحقق في الأرض أو لم يلق جزاءه. ولا قلق على الأجر إذا لم يوف في هذه العاجلة بمقاييس الناس، فسوف يوفاه بميزان الله. ولا قنوط من العدل إذا توزعت الحظوظ في الرحلة القصيرة على غير ما يريد، فالعدل لابد واقع. وما الله يريد ظلمًا للعباد.
والاعتقاد بالآخرة حاجز كذلك دون الصراع المجنون المحموم الذي تداس فيه القيم وتداس فيه الحرمات. بلا تحرج ولا حياء فهناك الآخرة فيها عطاء، وفيها غناء، وفيها عوض عما يفوت. وهذا التصور من شأنه أن يفيض السلام على مجال السباق والمنافسة؛ وأن يخلع التجمل على حركات المتسابقين؛ وأن يخفف السعار الذي ينطلق من الشعور بأن الفرصة الوحيدة المتاحة هي فرصة هذا العمر القصير المحدود!
ومعرفة المؤمن بأن غاية الوجود الإنساني هي العبادة، وأنه مخلوق ليعبد الله.. من شأنها- ولا شك- أن ترفعه إلى هذا الأفق الوضيء. ترفع شعوره وضميره، وترفع نشاطه وعمله، وتنظف وسائله وأدواته. فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله؛ وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه؛ وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض وتحقيق منهج الله فيها. فأولى به ألا يغدر ولا يفجر؛ وأولى به ألا يغش ولا يخدع؛ وأولى به ألا يطغى ولا يتجبر؛ وأولى به ألا يستخدم أداة مدنسة ولا وسيلة خسيسة.
وأولى به كذلك ألا يستعجل المراحل، وألا يعتسف الطريق، وألا يركب الصعب من الأمور. فهو بالغ هدفه من العبادة بالنية الخالصة والعمل الدائب في حدود الطاقة.. ومن شأن هذا كله ألا تثور في نفسه المخاوف والمطامع، وألا يستبد به القلق في أية مرحلة من مراحل الطريق. فهو يعبد في كل خطوة؛ وهو يحقق غاية وجوده في كل خطرة، وهو يرتقي صعدًا إلى الله في كل نشاط وفي كل مجال.
وشعور المؤمن بأنه يمضي مع قدر الله، في طاعة الله، لتحقيق إرادة الله.. وما يسكبه هذا الشعور في روحه من الطمأنينة والسلام والاستقرار؛ والمضي في الطريق بلا حيرة ولا قلق ولا سخط على العقبات والمشاق؛ وبلا قنوط من عون الله ومدده؛ وبلا خوف من ضلال القصد أو ضياع الجزاء.. ومن ثم يحس بالسلام في روحه حتى وهو يقاتل أعداء الله وأعداءه. فهو إنما يقاتل لله، وفي سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله؛ ولا يقاتل لجاه أو مغنم أو نزوة أو عرض ما من أعراض هذه الحياة.
كذلك شعوره بأنه يمضي على سنة الله مع هذا الكون كله. قانونه قانونه، ووجهته وجهته. فلا صدام ولا خصام، ولا تبديد للجهد ولا بعثرة للطاقة. وقوى الكون كله تتجمع إلى قوته، وتهتدي بالنور الذي يهتدي به، وتتجه إلى الله وهو معها يتجه إلى الله.
والتكاليف التي يفرضها الإسلام على المسلم كلها من الفطرة ولتصحيح الفطرة. لا تتجاوز الطاقة؛ ولا تتجاهل طبيعة الإنسان وتركيبه؛ ولا تهمل طاقة واحدة من طاقاته لا تطلقها للعمل والبناء والنماء؛ ولا تنسى حاجة واحدة من حاجات تكوينه الجثماني والروحي لا تلبيها في يسر وفي سماحة وفي رخاء.. ومن ثم لا يحار ولا يقلق في مواجهة تكاليفه. يحمل منها ما يطيق حمله، ويمضي في الطريق إلى الله في طمأنينة وروح وسلام.
والمجتمع الذي ينشئه هذا المنهج الرباني، في ظل النظام الذي ينبثق من هذه العقيدة الجميلة الكريمة، والضمانات التي يحيط بها النفس والعرض والمال.. كلها مما يشيع السلم وينشر روح السلام.
هذا المجتمع المتواد المتحاب المترابط المتضامن المتكافل المتناسق. هذا المجتمع الذي حققه الإسلام مرة في أرقى وأصفى صوره. ثم ظل يحققه في صور شتى على توالي الحقب، تختلف درجة صفائه، ولكنه يظل في جملته خيرًا من كل مجتمع آخر صاغته الجاهلية في الماضي والحاضر، وكل مجتمع لوثته هذه الجاهلية بتصوراتها ونظمها الأرضية!
هذا المجتمع الذي تربطه آصرة واحدة- آصرة العقيدة- حيث تذوب فيها الأجناس والأوطان، واللغات والألوان، وسائر هذه الأواصر العرضية التي لا علاقة لها بجوهر الإنسان..
هذا المجتمع الذي يسمع الله يقول له: {إنما المؤمنون إخوة} والذي يرى صورته في قول النبي الكريم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
هذا المجتمع الذي من آدابه: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} {ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحًا إن الله لا يحب كل مختال فخور} {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرًا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} {ولا يغتب بعضكم بعضًا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم} هذا المجتمع الذي من ضماناته: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا} {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} و«كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله».
ثم هذا المجتمع النظيف العفيف الذي لا تشيع فيه الفاحشة؛ ولا يتبجح فيه الإغراء، ولا تروج فيه الفتنة، ولا ينتشر فيه التبرج، ولا تتلفت فيه الأعين على العورات، ولا ترف فيه الشهوات على الحرمات، ولا ينطلق فيه سعار الجنس وعرامة اللحم والدم كما تنطلق في المجتمعات الجاهلية قديمًا وحديثًا.. هذا المجتمع الذي تحكمه التوجيهات الربانية الكثيرة، والذي يسمع الله سبحانه يقول: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون} {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا وأولئك هم الفاسقون} {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} والذي يخاطب فيه نساء النبي- أطهر نساء الأرض في أطهر بيت في أطهر بيئة في أطهر زمان:
{يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولًا معروفًا وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا} وفي مثل هذا المجتمع تأمن الزوجة على زوجها، ويأمن الزوج على زوجته، ويأمن الأولياء على حرماتهم وأعراضهم، ويأمن الجميع على أعصابهم وقلوبهم. حيث لا تقع العيون على المفاتن، ولا تقود العيون القلوب إلى المحارم. فإما الخيانة المتبادلة حينذاك وإما الرغائب المكبوتة وأمراض النفوس وقلق الأعصاب.. بينما المجتمع المسلم النظيف العفيف آمن ساكن، ترف عليه أجنحة السلم والطهر والأمان!
وأخيرًا إنه ذلك المجتمع الذي يكفل لكل قادر عملًا ورزقًا ولكل عاجز ضمانة للعيش الكريم، ولكل راغب في العفة والحصانة زوجة صالحة، والذي يعتبر أهل كل حي مسؤولين مسؤولية جنائية لو مات فيهم جائع؛ حتى ليرى بعض فقهاء الإسلام تغريمهم بالدية.
والمجتمع الذي تكفل فيه حريات الناس وكراماتهم وحرماتهم وأموالهم بحكم التشريع، بعد كفالتها بالتوجيه الرباني المطاع. فلا يؤخذ واحد فيه بالظنة، ولا يتسور على أحد بيته، ولا يتجسس على أحد فيه متجسس، ولا يذهب فيه دم هدرًا والقصاص حاضر؛ ولا يضيع فيه على أحد ماله سرقة أو نهبًا والحدود حاضرة.
المجتمع الذي يقوم على الشورى والنصح والتعاون. كما يقوم على المساواة والعدالة الصارمة التي يشعر معها كل أحد أن حقه منوط بحكم شريعة الله لا بإرادة حاكم، ولا هوى حاشية ولا قرابة كبير.
وفي النهاية المجتمع الوحيد بين سائر المجتمعات البشرية، الذي لا يخضع البشر فيه للبشر. إنما يخضعون حاكمين ومحكومين لله ولشريعته؛ وينفذون حاكمين ومحكومين حكم الله وشريعته. فيقف الجميع على قدم المساواة الحقيقية أمام الله رب العالمين وأحكم الحاكمين، في طمأنينة وفي ثقة وفي يقين..
هذه كلها بعض معاني السلم الذي تشير إليه الآية وتدعو الذين آمنوا للدخول فيه كافة. ليسلموا أنفسهم كلها لله؛ فلا يعود لهم منها شيء، ولا يعود لنفوسهم من ذاتها حظ؛ إنما تعود كلها لله في طواعية وفي انقياد وفي تسليم..
ولا يدرك معنى هذا السلم حق إدراكه من لا يعلم كيف تنطلق الحيرة وكيف يعربد القلق في النفوس التي لا تطمئن بالإيمان، في المجتمعات التي لا تعرف الإسلام، أو التي عرفته ثم تنكرت له، وارتدت إلى الجاهلية، تحت عنوان من شتى العنوانات في جميع الأزمان.. هذه المجتمعات الشقية الحائرة على الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادي والتقدم الحضاري، وسائر مقومات الرقي في عرف الجاهلية الضالة التصورات المختلة الموازين.
وحسبنا مثل واحد مما يقع في بلد أوربي من أرقى بلاد العالم كله وهو السويد.
حيث يخص الفرد الواحد من الدخل القومي ما يساوي خمسمائة جنيه في العام. وحيث يستحق كل فرد نصيبه من التأمين الصحي وإعانات المرض التي تصرف نقدًا والعلاج المجاني في المستشفيات. وحيث التعليم في جميع مراحله بالمجان، مع تقديم إعانات ملابس وقروض للطلبة المتفوقين وحيث تقدم الدولة حوالي ثلاثمائة جنيه إعانة زواج لتأثيث البيوت.. وحيث وحيث من ذلك الرخاء المادي والحضاري العجيب..
ولكن ماذا؟ ماذا وراء هذا الرخاء المادي والحضاري وخلو القلوب من الإيمان بالله؟ إنه شعب مهدد بالانقراض، فالنسل في تناقص مطرد بسبب فوضى الاختلاط! والطلاق بمعدل طلاق واحد لكل ست زيجات بسبب انطلاق النزوات وتبرج الفتن وحرية الاختلاط! والجيل الجديد ينحرف فيدمن على المسكرات والمخدرات؛ ليعوض خواء الروح من الإيمان وطمأنينة القلب بالعقيدة. والأمراض النفسية والعصبية والشذوذ بأنواعه تفترس عشرات الآلاف من النفوس والأرواح والأعصاب.. ثم الانتحار.. والحال كهذا في أمريكا.. والحال أشنع من هذا في روسيا..
إنها الشقوة النكدة المكتوبة على كل قلب يخلو من بشاشة الإيمان وطمأنينة العقيدة. فلا يذوق طعم السلم الذي يدعى المؤمنون ليدخلوا فيه كافة، ولينعموا فيه بالأمن والظل والراحة والقرار: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين}.
ولما دعا الله الذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة.. حذرهم أن يتبعوا خطوات الشيطان. فإنه ليس هناك إلا اتجاهان اثنان. إما الدخول في السلم كافة، وإما اتباع خطوات الشيطان. إما هدى وأما ضلال. إما إسلام وإما جاهلية إما طريق الله وإما طريق الشيطان وإما هدى الله وإما غواية الشيطان.. وبمثل هذا الحسم ينبغي أن يدرك المسلم موقفه، فلا يتلجلج ولا يتردد ولا يتحير بين شتى السبل وشتى الاتجاهات.
إنه ليست هنالك مناهج متعددة للمؤمن أن يختار واحدًا منها، أو يخلط واحدا منها بواحد.. كلا! إنه من لا يدخل في السلم بكليته، ومن لا يسلم نفسه خالصة لقيادة الله وشريعته، ومن لا يتجرد من كل تصور آخر ومن كل منهج آخر ومن كل شرع آخر.. إن هذا في سبيل الشيطان، سائر على خطوات الشيطان..
ليس هنالك حل وسط، ولا منهج بين بين، ولا خطة نصفها من هنا ونصفها من هناك! إنما هناك حق وباطل. هدى وضلال. إسلام وجاهلية. منهج الله أو غواية الشيطان. والله يدعو المؤمنين في الأولى إلى الدخول في السلم كافة؛ ويحذرهم في الثانية من اتباع خطوات الشيطان. ويستجيش ضمائرهم ومشاعرهم، ويستثير مخاوفهم بتذكيرهم بعداوة الشيطان لهم، تلك العداوة الواضحة البينة، التي لا ينساها إلا غافل. والغفلة لا تكون مع الإيمان.
ثم يخوفهم عاقبة الزلل بعد البيان: {فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم}. وتذكيرهم بأن الله: {عزيز} يحمل التلويح بالقوة والقدرة والغلبة، وأنهم يتعرضون لقوة الله حين يخالفون عن توجيهه.. وتذكيرهم بأنه {حكيم}. فيه إيحاء بأن ما اختاره لهم هو الخير، وما نهاهم عنه هو الشر، وأنهم يتعرضون للخسارة حين لا يتبعون أمره ولا ينتهون عما نهاهم عنه.. فالتعقيب بشطريه يحمل معنى التهديد والتحذير في هذا المقام..
بعد ذلك يتخذ السياق أسلوبًا جديدًا في التحذير من عاقبة الانحراف عن الدخول في السلم واتباع خطوات الشيطان. فيتحدث بصيغة الغيبة بدلًا من صيغة الخطاب:
{هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور}.
وهو سؤال استنكاري عن علة انتظار المترددين المتلكئين الذين لا يدخلون في السلم كافة. ما الذي يقعد بهم عن الاستجابة؟ ماذا ينتظرون؟ وماذا يرتقبون؟ تراهم سيظلون هكذا في موقفهم حتى يأتيهم الله سبحانه في ظلل من الغمام وتأتيهم الملائكة؟ وبتعبير آخر: هل ينتظرون ويتلكأون حتى يأتيهم اليوم الرعيب الموعود، الذي قال الله سبحانه: إنه سيأتي فيه في ظلل من الغمام، ويأتي الملائكة صفًا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابًا؟
وفجأة- وبينما نحن أمام السؤال الاستنكاري الذي يحمل طابع التهديد الرعيب- نجد أن اليوم قد جاء، وأن كل شيء قد انتهى، وأن القوم أمام المفاجأة التي كان يلوح لهم بها ويخوفهم إياها:
{وقضي الأمر}.
وطوي الزمان، وأفلتت الفرصة، وعزت النجاة، ووقفوا وجهًا لوجه أمام الله؛ الذي ترجع إليه وحده الأمور:
{وإلى الله ترجع الأمور}.
إنها طريقة القرآن العجيبة، التي تفرده وتميزه من سائر القول. الطريقة التي تحيي المشهد وتستحضره في التو واللحظة، وتقف القلوب إزاءه وقفة من يرى ويسمع ويعاني ما فيه!
فإلى متى يتخلف المتخلفون عن الدخول في السلم؛ وهذا الفزع الأكبر ينتظرهم؟ بل هذا الفزع الأكبر يدهمهم! والسلم منهم قريب. السلم في الدنيا والسلم في الآخرة يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلًا. يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابًا. يوم يقضي الأمر.. وقد قضي الأمر! {وإلى الله ترجع الأمور}.
هنا يلتفت السياق لفتة أخرى. فيخاطب النبي صلى الله عليه وسلم يكلفه أن يسأل بني إسرائيل- وهم نموذج التلكؤ في الاستجابة كما وصفتهم هذه السورة من قبل-: كم آتاهم الله من آية بينة ثم لم يستجيبوا! وكيف بدلوا نعمة الله، نعمة الإيمان والسلم، من بعد ما جاءتهم:
{سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب}.
والعودة هنا إلى بني إسرائيل عودة طبيعية، فهنا تحذير من موقف بنو إسرائيل فيه أصلاء! موقف التلكؤ دون الاستجابة؛ وموقف النشوز وعدم الدخول في السلم كافة؛ وموقف التعنت وسؤال الخوارق، ثم الاستمرار في العناد والجحود.
وهذه هي مزالق الطريق التي يحذر الله الجماعة المسلمة منها، كي تنجو من عاقبة بني إسرائيل المنكودة.
{سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة}.
والسؤال هنا قد لا يكون مقصورًا على حقيقته. إنما هو أسلوب من أساليب البيان، للتذكير بكثرة الآيات التي آتاها الله بني إسرائيل، والخوارق التي أجراها لهم.. إما بسؤال منهم وتعنت، وإما ابتداء من عند الله لحكمة حاضرة.. ثم ما كان منهم- على الرغم من كثرة الخوارق- من تردد وتلكؤ وتعنت ونكوص عن السلم الذي يظلل كنف الإيمان.
ثم يجيء التعقيب عامًا:
{ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب}.
ونعمة الله المشار إليها هنا هي نعمة السلم. أو نعمة الإيمان. فهما مترادفان. والتحذير من تبديلها يجد مصداقه أولًا في حال بني إسرائيل، وحرمانهم من السلم والطمأنينة والاستقرار، منذ أن بدلوا نعمة الله، وأبوا الطاعة الراضية، والاستسلام لتوجيه الله. وكانوا دائمًا في موقف الشاك المتردد، الذي يظل يطلب الدليل من الخارقة في كل خطوة وكل حركة؛ ثم لا يؤمن بالمعجزة، ولا يطمئن لنور الله وهداه، والتهديد بشدة عقاب الله يجد مصداقه أولًا في حال بني إسرائيل، ويجد مصداقه أخيرًا فيما ينتظر المبدلين للنعمة المتبطرين عليها في كل زمان.
وما بدلت البشرية هذه النعمة إلا أصابها العقاب الشديد في حياتها على الأرض قبل عقاب الآخرة. وها هي ذي البشرية المنكودة الطالع في أنحاء الأرض كلها تعاني العقاب الشديد؛ وتجد الشقوة النكدة؛ وتعاني القلق والحيرة؛ ويأكل بعضها بعضًا؛ ويأكل الفرد منها نفسه وأعصابه، ويطاردها وتطارده بالأشباح المطلقة، وبالخواء القاتل الذي يحاول المتحضرون أن يملأوه تارة بالمسكرات والمخدرات، وتارة بالحركات الحائرة التي يخيل إليك معها أنهم هاربون تطاردهم الأشباح!
ونظرة إلى صورهم في الأوضاع العجيبة المتكلفة التي يظهرون بها: من مائلة برأسها، إلى كاشفة عن صدرها، إلى رافعة ذيلها، إلى مبتدعة قبعة غريبة على هيئة حيوان! إلى واضع رباط عنق رسم عليه تيتل أو فيل! إلى لابس قميص تربعت عليه صورة أسد أو دب!
ونظرة إلى رقصاتهم المجنونة، وأغانيهم المحمومة، وأوضاعهم المتكلفة وأزيائهم الصارخة في بعض الحفلات والمناسبات؛ ومحاولة لفت النظر بالشذوذ الصارخ، أو ترضية المزاج بالتميز الفاضح..
ونظرة إلى التنقل السريع المحموم بين الأهواء والأزواج والصداقات والأزياء بين فصل وفصل، لا بل بين الصباح والمساء!
كل أولئك يكشف عن الحيرة القاتلة التي لا طمأنينة فيها ولا سلام. ويكشف عن حالة الملل الجاثم التي يفرون منها، وعن حالة الهروب من أنفسهم الخاوية وأرواحهم الموحشة، كالذي تطارده الجنة والأشباح.
وإن هو إلا عقاب الله، لمن يحيد عن منهجه، ولا يستمع لدعوته: {يا أيها الذين أمنوا ادخلوا في السلم كافة}.
وإن الإيمان الواثق لنعمة الله على عباده، لا يبدلها مبدل حتى يحيق به ذلك العقاب.. والعياذ بالله..
وفي ظل هذا التحذير من التلكؤ في الاستجابة، والتبديل بعد النعمة، يذكر حال الذين كفروا وحال الذين آمنوا؛ ويكشف عن الفرق بين ميزان الذين كفروا وميزان الذين آمنوا للقيم والأحوال والأشخاص:
{زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب}.
لقد زينت للذين كفروا هذه الحياة الدنيا؛ بأعراضها الزهيدة، واهتماماتها الصغيرة. زينت لهم فوقفوا عندها لا يتجاوزونها؛ ولا يمدون بأبصارهم إلى شيء وراءها؛ ولا يعرفون قيمًا أخرى غير قيمها. والذي يقف عند حدود هذه الحياة الدنيا لا يمكن أن يسمو تصوره إلى تلك الاهتمامات الرفيعة التي يحفل بها المؤمن، ويمد إليها بصره في آفاقها البعيدة.. إن المؤمن قد يحتقر أعراض الحياة كلها؛ لا لأنه أصغر منها همة أو أضعف منها طاقة، ولا لأنه سلبي لا ينمي الحياة ولا يرقيها.. ولكن لأنه ينظر إليها من عل- مع قيامه بالخلافة فيها، وإنشائه للعمران والحضارة، وعنايته بالنماء والإكثار- فينشد من حياته ما هو أكبر من هذه الأعراض وأغلى. ينشد منها أن يقر في الأرض منهجًا، وأن يقود البشرية إلى ما هو أرفع وأكمل، وأن يركز راية الله فوق هامات الأرض والناس، ليتطلع إليها البشر في مكانها الرفيع، وليمدوا بأبصارهم وراء الواقع الزهيد المحدود، الذي يحيا له من لم يهبه الإيمان رفعة الهدف، وضخامة الاهتمام، وشمول النظرة.
وينظر الصغار الغارقون في وحل الأرض، المستعبدون لأهداف الأرض.. ينظرون للذين آمنوا، فيرونهم يتركون لهم وحلهم وسفسافهم، ومتاعهم الزهيد؛ ليحاولوا آمالًا كبارًا لا تخصهم وحدهم، ولكن تخص البشرية كلها؛ ولا تتعلق بأشخاصهم إنما تتعلق بعقيدتهم؛ ويرونهم يعانون فيها المشقات؛ ويقاسون فيها المتاعب؛ ويحرمون أنفسهم اللذائذ التي يعدها الصغار خلاصة الحياة وأعلى أهدافها المرموقة.. ينظر الصغار المطموسون إلى الذين آمنوا- في هذه الحال- فلا يدركون سر اهتماماتهم العليا. عندئذ يسخرون منهم. يسخرون من حالهم، ويسخرون من تصوراتهم، ويسخرون من طريقهم الذي يسيرون فيه!
{زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا}.
ولكن هذا الميزان الذي يزن الكافرون به القيم ليس هو الميزان.. إنه ميزان الأرض. ميزان الكفر. ميزان الجاهلية.. أما الميزان الحق فهو في يد الله سبحانه. والله يبلغ الذين آمنوا حقيقة وزنهم في ميزانه:
{والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة}.
هذا هو ميزان الحق في يد الله. فليعلم الذين آمنوا قيمتهم الحقيقية في هذا الميزان. وليمضوا في طريقهم لا يحفلون سفاهة السفهاء، وسخرية الساخرين، وقيم الكافرين.
إنهم فوقهم يوم القيامة. فوقهم عند الحساب الختامي الأخير. فوقهم في حقيقة الأمر بشهادة الله أحكم الحاكمين.
والله يدخر لهم ما هو خير، وما هو أوسع من الرزق. يهبهم إياه حيث يختار؛ في الدنيا أو في الآخرة، أو في الدارين وفق ما يرى أنه لهم خير:
{والله يرزق من يشاء بغير حساب}.
وهو المانح الوهاب يمنح من يشاء، ويفيض على من يشاء لا خازن لعطائه ولا بوّاب! وهو قد يعطي الكافرين زينة الحياة الدنيا لحكمة منه، وليس لهم فيما أعطوا فضل. وهو يعطي المختارين من عباده ما يشاء في الدنيا أو في الآخرة.. فالعطاء كله من عنده. واختياره للأخيار هو الأبقى والأعلى..
وستظل الحياة أبداَ تعرف هذين النموذجين من الناس.. تعرف المؤمنين الذين يتلقون قيمهم وموازينهم وتصوراتهم من يد الله؛ فيرفعهم هذا التلقي عن سفساف الحياة وأعراض الأرض، واهتمامات الصغار؛ وبذلك يحققون إنسانيتهم؛ ويصبحون سادة للحياة، لا عبيدًا للحياة.. كما تعرف الحياة ذلك الصنف الآخر: الذين زينت لهم الحياة الدنيا، واستعبدتهم أعراضها وقيمها؛ وشدتهم ضروراتهم وأوهاقهم إلى الطين فلصقوا به لا يرتفعون!
وسيظل المؤمنون ينظرون من عل إلى أولئك الهابطين؛ مهما أوتوا من المتاع والأعراض. على حين يعتقد الهابطون أنهم هم الموهوبون، وأن المؤمنين هم المحرومون؛ فيشفقون عليهم تارة ويسخرون منهم تارة. وهم أحق بالرثاء والإشفاق..
وعلى ذكر الموازين والقيم؛ وظن الذين كفروا بالذين آمنوا؛ وحقيقة مكان هؤلاء ووزنهم عند الله.. ينتقل السياق إلى قصة الاختلاف بين الناس في التصورات والعقائد، والموازين والقيم؛ وينتهي بتقرير الأصل الذي ينبغي أن يرجع إليه المختلفون؛ وإلى الميزان الأخير الذي يحكم فيما هم فيه مختلفون:
{كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}.
هذه هي القصة.. كان الناس أمة واحدة. على نهج واحد، وتصور واحد. وقد تكون هذه إشارة إلى حالة المجموعة البشرية الأولى الصغيرة من أسرة آدم وحواء وذراريهم، قبل اختلاف التصورات والاعتقادات. فالقرآن يقرر أن الناس من أصل واحد. وهم أبناء الأسرة الأولى: أسرة آدم وحواء. وقد شاء الله أن يجعل البشر جميعًا نتاج أسرة واحدة صغيرة، ليقرر مبدأ الأسرة في حياتهم، وليجعلها هي اللبنة الأولى. وقد غبر عليهم عهد كانوا فيه في مستوى واحد واتجاه واحد وتصور واحد في نطاق الأسرة الأولى. حتى نمت وتعددت وكثر أفرادها، وتفرقوا في المكان، وتطورت معايشهم؛ وبرزت فيهم الاستعدادات المكنونة المختلفة، التي فطرهم الله عليها لحكمة يعلمها، ويعلم ما وراءها من خير للحياة في التنوع في الاستعدادات والطاقات والاتجاهات.
عندئذ اختلفت التصورات وتباينت وجهات النظر، وتعددت المناهج، وتنوعت المعتقدات.. وعندئذ بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين..
{وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه}.
وهنا تتبين تلك الحقيقة الكبرى.. إن من طبيعة الناس أن يختلفوا؛ لأن هذا الاختلاف أصل من أصول خلقتهم؛ يحقق حكمة عليا من استخلاف هذا الكائن في الأرض.. إن هذه الخلافة تحتاج إلى وظائف متنوعة، واستعدادات شتى من ألوان متعددة؛ كي تتكامل جميعها وتتناسق، وتؤدي دورها الكلي في الخلافة والعمارة، وفق التصميم الكلي المقدر في علم الله. فلابد إذن من تنوع في المواهب يقابل تنوع تلك الوظائف؛ ولابد من اختلاف في الاستعدادات يقابل ذلك الاختلاف في الحاجات.. {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}..
هذا الاختلاف في الاستعدادات والوظائف ينشئ بدوره اختلافًا في التصورات والاهتمامات والمناهج والطرائق.. ولكن الله يحب أن تبقى هذه الاختلافات المطلوبة الواقعة داخل إطار واسع عريض يسعها جميعًا حين تصلح وتستقيم.. هذا الإطار هو إطار التصور الإيماني الصحيح. الذي ينفسح حتى يضم جوانحه على شتى الاستعدادات وشتى المواهب وشتى الطاقات؛ فلا يقتلها ولا يكبحها؛ ولكن ينظمها وينسقها ويدفعها في طريق الصلاح.
ومن ثم لم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه المختلفون؛ وحكم عدل يرجع إليه المختصمون؛ وقول فصل ينتهي عنده الجدل، ويثوب الجميع منه إلى اليقين:
{فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه}.
ولابد أن نقف عند قوله تعالى: {بالحق}.. فهو القول الفصل بأن الحق هو ما جاء به الكتاب؛ وأن هذا الحق قد أنزل ليكون هو الحكم العدل، والقول الفصل، فيما عداه من أقوال الناس وتصوراتهم ومناهجهم وقيمهم وموازينهم.. لا حق غيره. ولا حكم معه. ولا قول بعده. وبغير هذا الحق الواحد الذي لا يتعدد؛ وبغير تحكيمه في كل ما يختلف فيه الناس؛ وبغير الانتهاء إلى حكمه بلا مماحكة ولا اعتراض.. بغير هذا كله لا يستقيم أمر هذه الحياة؛ ولا ينتهي الناس من الخلاف والفرقة؛ ولا يقوم على الأرض السلام؛ ولا يدخل الناس في السلم بحال.
ولهذه الحقيقة قيمتها الكبرى في تحديد الجهة التي يتلقى منها الناس تصوراتهم وشرائعهم؛ والتي ينتهون إليها في كل ما يشجر بينهم من خلاف في شتى صور الخلاف.. إنها جهة واحدة لا تتعدد هي التي أنزلت هذا الكتاب بالحق؛ وهو مصدر واحد لا يتعدد هو هذا الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه..
وهو كتاب واحد في حقيقته، جاء به الرسل جميعًا. فهو كتاب واحد في أصله، وهي ملة واحدة في عمومها، وهو تصور واحد في قاعدته: إله واحد، ورب واحد، ومعبود واحد، ومشرّع واحد لبني الإنسان.
ثم تختلف التفصيلات بعد ذلك وفق حاجات الأمم والأجيال؛ ووفق أطوار الحياة والارتباطات؛ حتى تكون الصورة الأخيرة التي جاء بها الإسلام، وأطلق الحياة تنمو في محيطها الواسع الشامل بلا عوائق. بقيادة الله ومنهجه وشريعته الحية المتجددة في حدود ذلك المحيط الشامل الكبير.
وهذا الذي يقرره القرآن في أمر الكتاب هو النظرية الإسلامية الصحيحة في خط سير الأديان والعقائد.. كل نبي جاء بهذا الدين الواحد في أصله، يقوم على القاعدة الأصيلة: قاعدة التوحيد المطلق.. ثم يقع الانحراف عقب كل رسالة، وتتراكم الخرافات والأساطير، حتى يبعد الناس نهائيًا عن ذلك الأصل الكبير، وهنا تجيء رسالة جديدة تجدد العقيدة الأصيلة، وتنفي ما علق بها من الانحرافات، وتراعي أحوال الأمة وأطوارها في التفصيلات.. وهذه النظرية أولى بالإتباع من نظريات الباحثين في تطور العقائد من غير المسلمين، والتي كثيرا ما يتأثر بها باحثون مسلمون، وهم لا يشعرون، فيقيمون بحوثهم على أساس التطور في أصل العقيدة وقاعدة التصور، كما يقول المستشرقون وأمثالهم من الباحثين الغربيين الجاهليين!
وهذا الثبات في أصل التصور الإيماني، هو الذي يتفق مع وظيفة الكتاب الذي أنزله الله بالحق، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، في كل زمان، ومع كل رسول، منذ أقدم الأزمان.
ولم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه الناس، وأن يكون هناك قول فصل ينتهون إليه. ولم يكن بد كذلك أن يكون هذا الميزان من صنع مصدر آخر غير المصدر الإنساني، وأن يكون هذا القول قول حاكم عدل لا يتأثر بالهوى الإنساني، ولا يتأثر بالقصور الإنساني، ولا يتأثر بالجهل الإنساني!
وإقامة ذلك الميزان الثابت تقتضي علمًا غير محدود. علم ما كان وما هو كائن وما سيكون. علمه كله لا مقيدًا بقيود الزمان التي تفصل الوجود الواحد إلى ماض وحاضر ومستقبل، وإلى مستيقن ومظنون ومجهول، وإلى حاضر مشهود ومغيب مخبوء.. ولا مقيدًا بقيود المكان التي تفصل الوجود الواحد إلى قريب وبعيد، ومنظور ومحجوب، ومحسوس وغير محسوس.. في حاجة إلى إله يعلم ما خلق، ويعلم من خلق.. ويعلم ما يصلح وما يصلح حال الجميع.
وإقامة ذلك الميزان في حاجة كذلك إلى استعلاء على الحاجة، واستعلاء على النقص، واستعلاء على الفناء، واستعلاء على الفوت، واستعلاء على الطمع، واستعلاء على الرغبة والرهبة.. واستعلاء على الكون كله بما فيه ومن فيه.. في حاجة إلى إله، لا أرب له، ولا هوى، ولا لذة، ولا ضعف في ذاته سبحانه ولا قصور!
أما العقل البشري فبحسبه أن يواجه الأحوال المتطورة، والظروف المتغيرة، والحاجات المتجددة؛ ثم يوائم بينها وبين الإنسان في لحظة عابرة وظرف موقوت. على أن يكون هناك الميزان الثابت الذي يفيء إليه، فيدرك خطأه وصوابه، وغيه ورشاده، وحقه وباطله، من ذلك الميزان الثابت.
وبهذا وحده تستقيم الحياة. ويطمئن الناس إلى أن الذي يسوسهم في النهاية إله!
إن الكتاب لم ينزل بالحق ليمحو فوارق الاستعدادات والمواهب والطرائق والوسائل. إنما جاء ليحتكم الناس إليه.. وإليه وحده.. حين يختلفون.
ومن شأن هذه الحقيقة أن تنشئ حقيقة أخرى تقوم على أساسها نظرة الإسلام التاريخية:
إن الإسلام يضع {الكتاب} الذي أنزله الله: {بالحق} ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.. يضع هذا الكتاب قاعدة للحياة البشرية. ثم تمضي الحياة. فإما اتفقت مع هذه القاعدة، وظلت قائمة عليها، فهذا هو الحق. وإما خرجت عنها وقامت على قواعد أخرى، فهذا هو الباطل.. هذا هو الباطل ولو ارتضاه الناس جميعًا. في فترة من فترات التاريخ. فالناس ليسوا هم الحكم في الحق والباطل. وليس الذي يقرره الناس هو الحق، وليس الذي يقرره الناس هو الدين. إن نظرة الإسلام تقوم ابتداء على أساس أن فعل الناس لشيء، وقولهم لشيء، وإقامة حياتهم على شيء.. لا تحيل هذا الشيء حقًا إذا كان مخالفًا للكتاب؛ ولا تجعله أصلًا من أصول الدين؛ ولا تجعله التفسير الواقعي لهذا الدين؛ ولا تبرره لأن أجيالًا متعاقبة قامت عليه..
وهذه الحقيقة ذات أهمية كبرى في عزل أصول الدين عما يدخله عليها الناس! وفي التاريخ الإسلامي مثلًا وقع انحراف، وظل ينمو وينمو.. فلا يقال: إن هذا الانحراف متى وقع وقامت عليه حياة الناس فهو إذن الصورة الواقعية للإسلام! كلا! إن الإسلام يظل بريئًا من هذا الواقع التاريخي. ويظل هذا الذي وقع خطأ وانحرافًا لا يصلح حجة ولا سابقة؛ ومن واجب من يريد استئناف حياة إسلامية أن يلغيه ويبطله، وأن يعود إلى الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه..
ولقد جاء الكتاب.. ومع ذلك كان الهوى يغلب الناس من هناك ومن هناك؛ وكانت المطامع والرغائب والمخاوف والضلالات تبعد الناس عن قبول حكم الكتاب، والرجوع إلى الحق الذي يردهم إليه:
{وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم}.
فالبغي.. بغي الحسد. وبغي الطمع. وبغي الحرص. وبغي الهوى.. هو الذي قاد الناس إلى المضي في الاختلاف على أصل التصور والمنهج؛ والمضي في التفرق واللجاج والعناد.
وهذه حقيقة.. فما يختلف اثنان على أصل الحق الواضح في هذا الكتاب، القوي الصادع المشرق المنير.. ما يختلف اثنان على هذا الأصل إلا وفي نفس أحدهما بغي وهوى، أو في نفسيهما جميعًا.. فأما حين يكون هناك إيمان فلابد من التقاء واتفاق:
{فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه}.
هداهم بما في نفوسهم من صفاء، وبما في أرواحهم من تجرد، وبما في قلوبهم من رغبة في الوصول إلى الحق.
وما أيسر الوصول حينئذ والاستقامة:
{والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}.
هو هذا الصراط الذي يكشف عنه ذلك الكتاب. وهو هذا المنهج الذي يقوم على الحق ويستقيم على الحق. ولا تتقاذفه الأهواء والشهوات، ولا تتلاعب به الرغاب والنزوات..
والله يختار من عباده لهذا الصراط المستقيم من يشاء، ممن يعلم منهم الاستعداد للهدى والاستقامة على الصراط؛ أولئك يدخلون في السلم، وأولئك هم الأعلون، ولو حسب الذين لا يزنون بميزان الله أنهم محرومون، ولو سخروا منهم كما يسخر الكافرون من المؤمنين!
وتنتهي هذه التوجيهات التي تستهدف إنشاء تصور إيماني كامل ناصع في قلوب الجماعة المسلمة.. تنتهي بالتوجه إلى المؤمنين الذين كانوا يعانون في واقعهم مشقة الاختلاف بينهم وبين أعدائهم من المشركين وأهل الكتاب، وما كان يجره هذا الخلاف من حروب ومتاعب وويلات.. يتوجه إليهم بأن هذه هي سنة الله القديمة، في تمحيص المؤمنين وإعدادهم ليدخلوا الجنة، وليكونوا لها أهلًا: أن يدافع أصحاب العقيدة عن عقيدتهم؛ وأن يلقوا في سبيلها العنت والألم والشدة والضر؛ وأن يتراوحوا بين النصر والهزيمة؛ حتى إذا ثبتوا على عقيدتهم، لم تزعزعهم شدة، ولم ترهبهم قوة، ولم يهنوا تحت مطارق المحنة والفتنة.. استحقوا نصر الله، لأنهم يومئذ أمناء على دين الله، مأمونون على ما ائتمنوا عليه، صالحون لصيانته والذود عنه. واستحقوا الجنة لأن أرواحهم قد تحررت من الخوف وتحررت من الذل، وتحررت من الحرص على الحياة أو على الدعة والرخاء. فهي عندئذ أقرب ما تكون إلى عالم الجنة، وارفع ما تكون عن عالم الطين:
{أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب}.
هكذا خاطب الله الجماعة المسلمة الأولى، وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها، وإلى سنته سبحانه في تربية عباده المختارين، الذين يكل إليهم رايته، وينوط بهم أمانته في الأرض ومنهجه وشريعته. وهو خطاب مطرد لكل من يختار لهذا الدور العظيم..
وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة.. إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه. من الرسول الموصول بالله، والمؤمنين الذين آمنوا بالله. إن سؤالهم: {متى نصر الله} ليصور مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة. ولن تكون إلا محنة فوق الوصف، تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب، فتبعث منها ذلك السؤال المكروب: {متى نصر الله}.
وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة.. عندئذ تتم كلمة الله، ويجيء النصر من الله: {ألا إن نصر الله قريب}.
إنه مدخر لمن يستحقونه. ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية. الذين يثبتون على البأساء والضراء. الذين يصمدون للزلزلة.
الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة. الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله، وعندما يشاء الله. وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها، فهم يتطلعون فحسب إلى {نصر الله}، لا إلى أي حل آخر، ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند الله. ولا نصر إلا من عند الله.
بهذا يدخل المؤمنون الجنة، مستحقين لها، جديرين بها، بعد الجهاد والامتحان، والصبر والثبات، والتجرد لله وحده، والشعور به وحده، وإغفال كل ما سواه وكل من سواه.
إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة، ويرفعها على ذواتها، ويطهرها في بوتقة الألم، فيصفو عنصرها ويضيء، ويهب العقيدة عمقًا وقوة وحيوية، فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها. وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجًا كما وقع، وكما يقع في كل قضية حق، يلقى أصحابها ما يلقون في أول الطريق، حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم، وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين..
على أنه- حتى إذا لم يقع هذا- يقع ما هو أعظم منه في حقيقته. يقع أن ترتفع أرواح أصحاب الدعوة على كل قوى الأرض وشرورها وفتنتها، وأن تنطلق من إسار الحرص على الدعة والراحة، والحرص على الحياة نفسها في النهاية.. وهذا الانطلاق كسب للبشرية كلها، وكسب للأرواح التي تصل إليه عن طريق الاستعلاء. كسب يرجح جميع الآلام وجميع البأساء والضراء التي يعانيها المؤمنون، والمؤتمنون على راية الله وأمانته ودينه وشريعته.
وهذا الانطلاق هو المؤهل لحياة الجنة في نهاية المطاف.. وهذا هو الطريق..
هذا هو الطريق كما يصفه الله للجماعة المسلمة الأولى، وللجماعة المسلمة في كل جيل.
هذا هو الطريق: إيمان وجهاد.. ومحنة وابتلاء. وصبر وثبات.. وتوجه إلى الله وحده. ثم يجيء النصر. ثم يجيء النعيم. اهـ.